المقالة الاولى " الطب والفلك والفلسفة "
قال جالينوس الحكيم : الطب يحتاج الى الفلك والفلسفة .
هذه الأقانيم الثلاثة والتي هي من أمهات العلم وأركانه , عبارة عن : قاعدة وهي الفلسفة , وخطان منطلقان منها هما الطب والفلك , وذلك الخطان ليسا متوازيين بل ملتقيين ومتقاطعين , التقيا على المحبة , وتقاطعا على التكامل , لتجري بهما مادة القاعدة باستمرار كغصني شجرة مثمرة يغتذيان من الجذر , فأورقا وأثمرا ولم يعرفا جفافا .
إذن , لقد اصبح لدينا مفهوم رياضي هندسي يدعى المثلث , والمثلث على الاطلاق هو مثلث بأضلاعه الثلاثة , فاذا فقد احدى اضلاعه لم يعد يسمى مثلثا بل زاوية , وبذلك يتغير الشكل والمضمون .
فهل يفهم من ذلك ان الطبيب الذي لم يدرس الفلسفة والفلك هو مثلث ناقص ضلعان , أي يكون ثلث طبيب ؟
الظاهر والواضح نعم ذلك صحيح .
لكن , يتسائل المرء , ما هي الضرورة الملحة في ذلك ؟ يعني , ألا يكفي الطبيب المعرفة بالمرض والعلاج , وكفى الله المسلمين شر القتال ؟
قد يكون ذلك كاف من بعض وجهات النظر , انما ذلك غير كاف من وجهات النظر الاخرى , ولكل فريق حججه وبيناته التي يراها دامغة وقاطعة .
فحين يحتاج المريض الى علاج , يصف الطبيب الدواء , ويصرف الصيدلي الوصفة , ويتناول المريض دواءه , وبعد فترة من الزمن وإذ بالمرض قد أطل من جديد .
لماذا ؟ وما السبب يا ترى , أليس الجهل بمعرفة الوقت الملائم لتناول الدواء هو السبب ؟
لا شك في ذلك , ولقد قال الشيخ البوني : من عرف الوقت نال الطالب كل ما يريده من هذا العلم - يقصد الروحاني . كذلك هنا في موضوعنا هذا .
فالزمن المؤقت للظواهر احدى الحكام العظام الذي يحكمنا ونخضع له الى مدى بعيد فهو داخل فينا ويشكل جزءا رئيسيا منا ؟
فحين ينظر الطبيب الفلكي الى طالع المريض ويجمع الادلة لتحقيق المرض , وفي اي عضو هو , ومدى شدته وما الى هنالك , ثم ينظر الى المريض ويستمع منه بحذق وتمييز وفهم كل كلمة على ماذا تدل , ويبحث معه عن الاسباب ويمزج بينها وبين ما استنتجه من الخريطة فيأتي العلاج شافيا ولا يعود المرض لان الدواء قد ركّب على رصد لا يتلاشى الى يوم القيامة .
ويكون الجمع بين النظر في الخريطة والى المريض , كالجمع بين جسد وروح , وبين مادة وصورة , وبين إكسير وفضة أحميت للروباص .
أحيانا كثيرة يكون شرح المريض هو التشخيص بعينه , فيقول مثلا : حين أتناول الحامض أعاني من الحرقان , فيستدل الطبيب ان لديه البرودة غالبة على الحرارة , وهكذا مما هو اعظم من هذا .
ان فهم الظواهر والدخول الى بواطنها والربط بينها يختص بالفلسفة , إنها المجهر الذي توضع تحته المحسوسات لتحليلها والوقوف على كنهها , لنخرج من بعد ذلك التحليل والتفصيل بتصور وادراك آخر , والغاية الحصول على العلم لاتقان العمل .
ولما كانت الفلسفة تدخل في كل ميدان من ميادين الوجود , فالطب كما الفلك , احدى تلك الميادين التي يحتاج الى تصور وادراك بواسطة الفلسفة للوصول الى سبر أغواره ومن ثم العمل المتقن لارجاع صحة مفقودة والحفاظ على صحة موجودة .
وكلما عظم أمر الصحة عظمت الطرق الموصلة لها على الاسس المتقدمة المبنية على المهارة والحكمة , ولذلك كان معظم الاطباء القدماء فلكيين , وما كان ليوثق في مهنة طبيب اذا لم يتقن الفلك , وتحصيل حاصل ان من يتقن الطب والفلك لابد من ان يكون قد حصل على الفلسفة .
قال انشتاين : للمادة بعد رابع هو الزمن .
فجسد الانسان مادة ذات ابعاد ثلاثة وهي الطول والعرض والعمق , وبعدها الرابع الزمن , والآن ما الزمن ؟
قال أرسطو الحكيم : الزمن هو عدد حركة الفلك .
ولايصال الفكرة من طريق مختصر : تشهد الناس للمتوفى حيث تقول : كان زمانه يتمتع بالاخلاق الحسنة والسيرة الحميدة .
إذن , فالناس تعلم ان الزمن بعد من ابعاد المادة او الجسد ولكنها تحتاج الى قليل من لفت النظر وتسليط الضوء على هذه الفكرة لتدركها تماما .
إن الابراج والكواكب وما تدل عليه من أعضاء الجسد , بالاضافة الى الدراسة الدقيقة بكلية الجهد لاحوالها من خلال مباديء ثلاثة الاعتدال والافراط والتفريط , وما تحتاج اليه تلك المباديء من شواهد وأدلة , فيستطاع الوقوف على تحديد العضو المريض , وتحديد المرض زيادة او نقصانا في الطبيعة الممدة والمغذية له , ومعرفة العلاج وعاقبته , ومعارف اخرى تطرق اليها المهتمون والمتعمقون من العلماء والحكماء العرب وغيرهم من الامم الاخرى .
وما كان الجسد البشري سوى أرضية مادية لتطبيق النظريات الفلكية للحصول على الزبدة الطرية من تلك العلل الفلسفية الاربعة : الفاعلية والمادية والصورية والغائية .
مقالتي الثانية : " سوء المزاج وصحة المزاج في النجوم والجسوم "
ان العقدتين الشمالية والجنوبية للقمر هما نقطتان وهميتان لا حقيقة لهما بين النجوم , كما ان سوء المزاج وصحته لا وجود لهما في الجسموم , بل الوجود لآثارهما . ولهما اهمية كبيرة في الوجود السفلي كما في الوجود العلوي , حيث تعبران عن حال راهن من جهة , وعن حال مستقبل من جهة اخرى فقد تحملان علامة انذار وتحذير من الوقوع في مرض صعب وخطير .
حين يلتقي شخص بصديق فأول ما يسأله , بعد السلام : كيف الصحة ؟
فيكون الجواب : الحمدلله , اي المزاج جيد وقريب من الاعتدال . أما اذا كان الوضع الصحي بخلاف ذلك , فالجواب يكون : لا , مزاجي معكر .
وفي الواقع , تبدو آثار تلك النقطتين على الوجه , فلذلك يقولون : الوجه مرآة الجسد , اي يعكس ما فيه من سقم او صحة
فاذا أراد الانسان ان يعرف حال شخص ما , فلذلك طرق يصل من خلالها الى مراده :
- احدها النظر الى هيئة ووجه الشخص المراد , فيستدلل من أسارير وجهه المنبسطة على الصحة الجيدة والاحوال السعيدة بشكل عام , ومن أسارير وجهه المنقبضة على سوء الصحة والاحوال الصعبة .
- وطريق اخر يأخذ ويعطي معه بالكلام والتساؤل حيث يفتح معه تحقيقا صحفيا طويلا عريضا ليصل الى الاطمئنان والايقان بالاحاطة مما يعاني منه , فقد يكون مرض ما سببه ليس فيزيولوجيا وانما اقتصاديا او اجتماعيا مثلا , وقد يصل معه الى استشعار الخوف والتوجس من ان تنتابه احدى الامراض المستعصية على الحل .
- او يسلك طريق آخر وهو أدق من الطريقين الاولين وذلك بأخذه الى الطبيب وأخذ عينة من دمه لتحليلها في المخبر الطبي , وإحالته الى التصوير الشعاعي والرنين المغناطيسي والطبقي المحوري , وقد يحال الى طبيب نفسي ليشرّحه فلسفيا بتحقيقه النفسي حتى يصل الى أعماقه السيكولوجية ويربطها بأعضائه الفيزيولوجية مشخصا أخلاقه المحمودة والمذمومة وتأثيرها على وضعه العام والخاص .
وبعد كل تلك العمليات الطويلة والمجهدة يحصل الشخص على تقرير مؤداه خلوه من المرض , او عدم خلوه منه .
- وأما ان استطاع ان يجمع بين النظر والتحقيقات المتقدمة , فهذا طريق ثالث ينتج من الطرق الاولى وتلك غاية ما بعدها غاية في الوصول الى الحقيقة .
والفلكي , في حقيقة الامر , يسلك نفس ذلك الطريق :
- حيث ينظر ويحدق في وجه وهيئة النجوم من خلال الخريطة المرسومة أمامه , فإذا رأى السعود ظاهرة على أسارير وجهها المنبسطة بانفراد كواكبها واستقرارهم في بيوتهم , تفاءل واستبشر .
واذا رأى العبوس و النحوس ظاهرة على أسارير وجهها المنقبضة بسبب تخلخل موازين النظام فيها تشائم واستنفر .
- ثم يدخل في الهيئة الى مخبر التحليل للتحقيق , فيضع الفرضيات والنظريات والسيناريوهات لمسلسل الاحداث , ومجريات الامور , والعلاقات الديبلوماسية والاستراتيجية بين الكواكب وبيوتها , ويزن ويقيس مدى قرب الكوكب من الصحة والاستقامة ومدى بعده عن ذلك , فيحلل ويركب صورا في الواقع هي أدق من الصور الشعاعية والطبقي المحورية , لانها ذهنية قلبية فكرية لا عينية حسية وحسب .
ويحلل الاركان والطبائع الاربعة في الخريطة كالتحليل المخبري لدم بني آدم وأخلاطه الاربعة ليصل الى معرفة تركيبها ومعرفة طبعها , ويتسائل هل هناك من خلل في مواد بنانها , او ان الاعتدال والخير والكوثر ينضح ويفيض من انسجامها وتوافقها .
والخلاصة التي يصل اليها الفلكي من بعد ذاك التحليل المخبري لمكونات الخريطة , والتحقيق الصحفي مع كواكبها لمعرفة مواقفها واتجاهاتها ومدى قوتها , للوصول من تلك الهيئة الفلكية الى سوء المزاج فيها او صحته , ان كان الامر طبيا , او اي أمر من أمور الحياة والوجود .
ولما كانت أمور الحياة والوجود كثيرة ومتنوعة وليست واحدة وقليلة , فلنأخذ عينة حيث ان العينة تدل على العين كما ان الجزء يدل على الكل , ونفحص ونختبر المراد بشكل دقيق على قدر الامكان , كي يأتي الحكم الفلكي مطابقا للمواصفات الاحكامية , والقوانين العلمائية , التي سنتها وشرعت ابوابها المدارس العريقة والاصيلة وخاصة المدرسة الاولى الهرمسية .
ان مجال الطب واسع , ولما كان واسعا تنوعت طرقه على مدار الازمان والاكوار , فمنها الطب الروحي بالرقى والذكر الحكيم , ومنها الطب الايحائي , ومنها الطب المغناطيسي , ومنها الطب الكيماوي وأخوه الطب النووي , ومنها الطب الطبيعي , وغير ذلك حسب الحضارات والاعصرة .
سأختار من بين تلك الانواع نوعا واحدا للاستشهاد والمطابقة بين العلوي والسفلي , وهو الطب القائم على الطبائع المولدة للاركان والمواليد , الذي حفر أساساته ووضع أولى لبناته أبقراط الحكيم , وأتى بعده الفاعلون والعمال من العلماء والحكماء الافاضل لتتمم وتكمل ذلك الصرح العتيد المجيد , وحين تم او كاد ان يتم خلال ألفي عام تقريبا , أتت السيدة حضارة بني آدم الحديثة لا لتكمل وتتابع المشوار بل لهدمه والاستغناء عنه بحجة القدم والتقدم بالعمر وعدم قدرته على مواكبة التقدم والتطور والقيام بمتطلبات العصر , وعدم ملائمته للزمان والمكان والشعوب والامم , فهجرته منذ حوالي ثلاثمائة سنة وراحت تبني دارا جديدة حديثة أسمتها الطب الحديث .
إن الطب القديم ينسجم مع التنجيم القديم وتكاد لا تستطيع التمييز بينهما الا من حيث موضوعهما الذي احدهما هو الجسد الفلكي والآخر الجسد البشري . فكل منهما - الطب والتنجيم - يريد الاحاطة بالطبائع الفلكية وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة لتحليل الهيئة الفلكية وتشخيص السعود والنحوس , ولتحليل الجسد البشري وتشخيص الصحة والمرض . فتلك الطبائع التي أنشأت أخلاط الدم الاربعة في الجسم الحي من انسان وحيوان وهي الدم والصفراء والسوداء والبلغم , والتي من اختلاطها يتولد وينتج المزاج . نفس تلك الطبائع قد أنشأت الاوتاد الاربعة في الهيئة الفلكية .
والمزاج نوعان : سيء وجيد , وهما المعبر عنهما - كما تقدم - بسوء المزاج وصحته . فما شكايتنا دائما من أي شيء , وتضجرنا وعدم تحملنا اي شيء , سوى من اختلال المزاج وبعده عن خط المعدل الصحي والذي يقابله فلكيا خط المعدل السماوي , بالاضافة الى انغماسنا في ظلم أنفسنا لجهلنا بما يصحح ويصلح هذه النفس . وما مثلنا في ذلك الا كمثل من يقود سيارة ولا يعرف منها سوى الاسم والشكل فتارة يضع فيها بنزين ومرة مازوت وحيننا غاز , بحجة ان التنوع والاختلاف لا يفسد للود قضية , ويعتقد ان ما يأتي به من عمل انما هو تقوية وصيانة واطالة في عمر سيارته العتيدة
فما الطريق الى معرفة سوء المزاج وصحته في الهيئة الفلكية ؟
إن قواعد الجسد الحي الاربعة الاساسية : الكبد والطحال والمرارة والرئة , والتي تحتوي على أخلاط الدم الاربعة , كالأوتاد الاربعة في الهيئة السماوية : وتد الشرق , ووتد الغرب , ووتد الجنوب , ووتد الشمال . فدراسة تلك الاوتاد وفهمها توصلنا الى معرفة الصحة والمرض في الكائنات الحية , ويزيد الفلكي شيئا على الطب الارضي وهو معرفة الوقت - كما تقدم في مقالة الطب والفلك والفلسفة - الذي يصح فيه المريض تماما , فاشترك الطبيب والفلكي بمعرفة الصحة والمرض , وزاد الفلكي على الطبيب بمعرفة وقت العلاج , لان ذلك مهم كي لا يعود المرض وهو المعبر عنه بالرصد , وهذا ما يجهله اليوم معظم الأطباء ان لم يكن جميعهم .
ومعروف ان القمر يعبر عن الفلك وأحواله وكأنه وزير الاعلام والناطق الرسمي باسمه , وبما ان العقدتين الشمالية والجنوبية مرتبطتان به تابعتان له , وبناء على ما تقدم , فكل سوء وخلل وشر وخطل في الهيئة قد تعبر عنه تلك العقدتان لمشاكلتهما لسوء المزاج وصحته في الجسم الحي .
قال جالينوس الحكيم : الطب يحتاج الى الفلك والفلسفة .
هذه الأقانيم الثلاثة والتي هي من أمهات العلم وأركانه , عبارة عن : قاعدة وهي الفلسفة , وخطان منطلقان منها هما الطب والفلك , وذلك الخطان ليسا متوازيين بل ملتقيين ومتقاطعين , التقيا على المحبة , وتقاطعا على التكامل , لتجري بهما مادة القاعدة باستمرار كغصني شجرة مثمرة يغتذيان من الجذر , فأورقا وأثمرا ولم يعرفا جفافا .
إذن , لقد اصبح لدينا مفهوم رياضي هندسي يدعى المثلث , والمثلث على الاطلاق هو مثلث بأضلاعه الثلاثة , فاذا فقد احدى اضلاعه لم يعد يسمى مثلثا بل زاوية , وبذلك يتغير الشكل والمضمون .
فهل يفهم من ذلك ان الطبيب الذي لم يدرس الفلسفة والفلك هو مثلث ناقص ضلعان , أي يكون ثلث طبيب ؟
الظاهر والواضح نعم ذلك صحيح .
لكن , يتسائل المرء , ما هي الضرورة الملحة في ذلك ؟ يعني , ألا يكفي الطبيب المعرفة بالمرض والعلاج , وكفى الله المسلمين شر القتال ؟
قد يكون ذلك كاف من بعض وجهات النظر , انما ذلك غير كاف من وجهات النظر الاخرى , ولكل فريق حججه وبيناته التي يراها دامغة وقاطعة .
فحين يحتاج المريض الى علاج , يصف الطبيب الدواء , ويصرف الصيدلي الوصفة , ويتناول المريض دواءه , وبعد فترة من الزمن وإذ بالمرض قد أطل من جديد .
لماذا ؟ وما السبب يا ترى , أليس الجهل بمعرفة الوقت الملائم لتناول الدواء هو السبب ؟
لا شك في ذلك , ولقد قال الشيخ البوني : من عرف الوقت نال الطالب كل ما يريده من هذا العلم - يقصد الروحاني . كذلك هنا في موضوعنا هذا .
فالزمن المؤقت للظواهر احدى الحكام العظام الذي يحكمنا ونخضع له الى مدى بعيد فهو داخل فينا ويشكل جزءا رئيسيا منا ؟
فحين ينظر الطبيب الفلكي الى طالع المريض ويجمع الادلة لتحقيق المرض , وفي اي عضو هو , ومدى شدته وما الى هنالك , ثم ينظر الى المريض ويستمع منه بحذق وتمييز وفهم كل كلمة على ماذا تدل , ويبحث معه عن الاسباب ويمزج بينها وبين ما استنتجه من الخريطة فيأتي العلاج شافيا ولا يعود المرض لان الدواء قد ركّب على رصد لا يتلاشى الى يوم القيامة .
ويكون الجمع بين النظر في الخريطة والى المريض , كالجمع بين جسد وروح , وبين مادة وصورة , وبين إكسير وفضة أحميت للروباص .
أحيانا كثيرة يكون شرح المريض هو التشخيص بعينه , فيقول مثلا : حين أتناول الحامض أعاني من الحرقان , فيستدل الطبيب ان لديه البرودة غالبة على الحرارة , وهكذا مما هو اعظم من هذا .
ان فهم الظواهر والدخول الى بواطنها والربط بينها يختص بالفلسفة , إنها المجهر الذي توضع تحته المحسوسات لتحليلها والوقوف على كنهها , لنخرج من بعد ذلك التحليل والتفصيل بتصور وادراك آخر , والغاية الحصول على العلم لاتقان العمل .
ولما كانت الفلسفة تدخل في كل ميدان من ميادين الوجود , فالطب كما الفلك , احدى تلك الميادين التي يحتاج الى تصور وادراك بواسطة الفلسفة للوصول الى سبر أغواره ومن ثم العمل المتقن لارجاع صحة مفقودة والحفاظ على صحة موجودة .
وكلما عظم أمر الصحة عظمت الطرق الموصلة لها على الاسس المتقدمة المبنية على المهارة والحكمة , ولذلك كان معظم الاطباء القدماء فلكيين , وما كان ليوثق في مهنة طبيب اذا لم يتقن الفلك , وتحصيل حاصل ان من يتقن الطب والفلك لابد من ان يكون قد حصل على الفلسفة .
قال انشتاين : للمادة بعد رابع هو الزمن .
فجسد الانسان مادة ذات ابعاد ثلاثة وهي الطول والعرض والعمق , وبعدها الرابع الزمن , والآن ما الزمن ؟
قال أرسطو الحكيم : الزمن هو عدد حركة الفلك .
ولايصال الفكرة من طريق مختصر : تشهد الناس للمتوفى حيث تقول : كان زمانه يتمتع بالاخلاق الحسنة والسيرة الحميدة .
إذن , فالناس تعلم ان الزمن بعد من ابعاد المادة او الجسد ولكنها تحتاج الى قليل من لفت النظر وتسليط الضوء على هذه الفكرة لتدركها تماما .
إن الابراج والكواكب وما تدل عليه من أعضاء الجسد , بالاضافة الى الدراسة الدقيقة بكلية الجهد لاحوالها من خلال مباديء ثلاثة الاعتدال والافراط والتفريط , وما تحتاج اليه تلك المباديء من شواهد وأدلة , فيستطاع الوقوف على تحديد العضو المريض , وتحديد المرض زيادة او نقصانا في الطبيعة الممدة والمغذية له , ومعرفة العلاج وعاقبته , ومعارف اخرى تطرق اليها المهتمون والمتعمقون من العلماء والحكماء العرب وغيرهم من الامم الاخرى .
وما كان الجسد البشري سوى أرضية مادية لتطبيق النظريات الفلكية للحصول على الزبدة الطرية من تلك العلل الفلسفية الاربعة : الفاعلية والمادية والصورية والغائية .
مقالتي الثانية : " سوء المزاج وصحة المزاج في النجوم والجسوم "
ان العقدتين الشمالية والجنوبية للقمر هما نقطتان وهميتان لا حقيقة لهما بين النجوم , كما ان سوء المزاج وصحته لا وجود لهما في الجسموم , بل الوجود لآثارهما . ولهما اهمية كبيرة في الوجود السفلي كما في الوجود العلوي , حيث تعبران عن حال راهن من جهة , وعن حال مستقبل من جهة اخرى فقد تحملان علامة انذار وتحذير من الوقوع في مرض صعب وخطير .
حين يلتقي شخص بصديق فأول ما يسأله , بعد السلام : كيف الصحة ؟
فيكون الجواب : الحمدلله , اي المزاج جيد وقريب من الاعتدال . أما اذا كان الوضع الصحي بخلاف ذلك , فالجواب يكون : لا , مزاجي معكر .
وفي الواقع , تبدو آثار تلك النقطتين على الوجه , فلذلك يقولون : الوجه مرآة الجسد , اي يعكس ما فيه من سقم او صحة
فاذا أراد الانسان ان يعرف حال شخص ما , فلذلك طرق يصل من خلالها الى مراده :
- احدها النظر الى هيئة ووجه الشخص المراد , فيستدلل من أسارير وجهه المنبسطة على الصحة الجيدة والاحوال السعيدة بشكل عام , ومن أسارير وجهه المنقبضة على سوء الصحة والاحوال الصعبة .
- وطريق اخر يأخذ ويعطي معه بالكلام والتساؤل حيث يفتح معه تحقيقا صحفيا طويلا عريضا ليصل الى الاطمئنان والايقان بالاحاطة مما يعاني منه , فقد يكون مرض ما سببه ليس فيزيولوجيا وانما اقتصاديا او اجتماعيا مثلا , وقد يصل معه الى استشعار الخوف والتوجس من ان تنتابه احدى الامراض المستعصية على الحل .
- او يسلك طريق آخر وهو أدق من الطريقين الاولين وذلك بأخذه الى الطبيب وأخذ عينة من دمه لتحليلها في المخبر الطبي , وإحالته الى التصوير الشعاعي والرنين المغناطيسي والطبقي المحوري , وقد يحال الى طبيب نفسي ليشرّحه فلسفيا بتحقيقه النفسي حتى يصل الى أعماقه السيكولوجية ويربطها بأعضائه الفيزيولوجية مشخصا أخلاقه المحمودة والمذمومة وتأثيرها على وضعه العام والخاص .
وبعد كل تلك العمليات الطويلة والمجهدة يحصل الشخص على تقرير مؤداه خلوه من المرض , او عدم خلوه منه .
- وأما ان استطاع ان يجمع بين النظر والتحقيقات المتقدمة , فهذا طريق ثالث ينتج من الطرق الاولى وتلك غاية ما بعدها غاية في الوصول الى الحقيقة .
والفلكي , في حقيقة الامر , يسلك نفس ذلك الطريق :
- حيث ينظر ويحدق في وجه وهيئة النجوم من خلال الخريطة المرسومة أمامه , فإذا رأى السعود ظاهرة على أسارير وجهها المنبسطة بانفراد كواكبها واستقرارهم في بيوتهم , تفاءل واستبشر .
واذا رأى العبوس و النحوس ظاهرة على أسارير وجهها المنقبضة بسبب تخلخل موازين النظام فيها تشائم واستنفر .
- ثم يدخل في الهيئة الى مخبر التحليل للتحقيق , فيضع الفرضيات والنظريات والسيناريوهات لمسلسل الاحداث , ومجريات الامور , والعلاقات الديبلوماسية والاستراتيجية بين الكواكب وبيوتها , ويزن ويقيس مدى قرب الكوكب من الصحة والاستقامة ومدى بعده عن ذلك , فيحلل ويركب صورا في الواقع هي أدق من الصور الشعاعية والطبقي المحورية , لانها ذهنية قلبية فكرية لا عينية حسية وحسب .
ويحلل الاركان والطبائع الاربعة في الخريطة كالتحليل المخبري لدم بني آدم وأخلاطه الاربعة ليصل الى معرفة تركيبها ومعرفة طبعها , ويتسائل هل هناك من خلل في مواد بنانها , او ان الاعتدال والخير والكوثر ينضح ويفيض من انسجامها وتوافقها .
والخلاصة التي يصل اليها الفلكي من بعد ذاك التحليل المخبري لمكونات الخريطة , والتحقيق الصحفي مع كواكبها لمعرفة مواقفها واتجاهاتها ومدى قوتها , للوصول من تلك الهيئة الفلكية الى سوء المزاج فيها او صحته , ان كان الامر طبيا , او اي أمر من أمور الحياة والوجود .
ولما كانت أمور الحياة والوجود كثيرة ومتنوعة وليست واحدة وقليلة , فلنأخذ عينة حيث ان العينة تدل على العين كما ان الجزء يدل على الكل , ونفحص ونختبر المراد بشكل دقيق على قدر الامكان , كي يأتي الحكم الفلكي مطابقا للمواصفات الاحكامية , والقوانين العلمائية , التي سنتها وشرعت ابوابها المدارس العريقة والاصيلة وخاصة المدرسة الاولى الهرمسية .
ان مجال الطب واسع , ولما كان واسعا تنوعت طرقه على مدار الازمان والاكوار , فمنها الطب الروحي بالرقى والذكر الحكيم , ومنها الطب الايحائي , ومنها الطب المغناطيسي , ومنها الطب الكيماوي وأخوه الطب النووي , ومنها الطب الطبيعي , وغير ذلك حسب الحضارات والاعصرة .
سأختار من بين تلك الانواع نوعا واحدا للاستشهاد والمطابقة بين العلوي والسفلي , وهو الطب القائم على الطبائع المولدة للاركان والمواليد , الذي حفر أساساته ووضع أولى لبناته أبقراط الحكيم , وأتى بعده الفاعلون والعمال من العلماء والحكماء الافاضل لتتمم وتكمل ذلك الصرح العتيد المجيد , وحين تم او كاد ان يتم خلال ألفي عام تقريبا , أتت السيدة حضارة بني آدم الحديثة لا لتكمل وتتابع المشوار بل لهدمه والاستغناء عنه بحجة القدم والتقدم بالعمر وعدم قدرته على مواكبة التقدم والتطور والقيام بمتطلبات العصر , وعدم ملائمته للزمان والمكان والشعوب والامم , فهجرته منذ حوالي ثلاثمائة سنة وراحت تبني دارا جديدة حديثة أسمتها الطب الحديث .
إن الطب القديم ينسجم مع التنجيم القديم وتكاد لا تستطيع التمييز بينهما الا من حيث موضوعهما الذي احدهما هو الجسد الفلكي والآخر الجسد البشري . فكل منهما - الطب والتنجيم - يريد الاحاطة بالطبائع الفلكية وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة لتحليل الهيئة الفلكية وتشخيص السعود والنحوس , ولتحليل الجسد البشري وتشخيص الصحة والمرض . فتلك الطبائع التي أنشأت أخلاط الدم الاربعة في الجسم الحي من انسان وحيوان وهي الدم والصفراء والسوداء والبلغم , والتي من اختلاطها يتولد وينتج المزاج . نفس تلك الطبائع قد أنشأت الاوتاد الاربعة في الهيئة الفلكية .
والمزاج نوعان : سيء وجيد , وهما المعبر عنهما - كما تقدم - بسوء المزاج وصحته . فما شكايتنا دائما من أي شيء , وتضجرنا وعدم تحملنا اي شيء , سوى من اختلال المزاج وبعده عن خط المعدل الصحي والذي يقابله فلكيا خط المعدل السماوي , بالاضافة الى انغماسنا في ظلم أنفسنا لجهلنا بما يصحح ويصلح هذه النفس . وما مثلنا في ذلك الا كمثل من يقود سيارة ولا يعرف منها سوى الاسم والشكل فتارة يضع فيها بنزين ومرة مازوت وحيننا غاز , بحجة ان التنوع والاختلاف لا يفسد للود قضية , ويعتقد ان ما يأتي به من عمل انما هو تقوية وصيانة واطالة في عمر سيارته العتيدة
فما الطريق الى معرفة سوء المزاج وصحته في الهيئة الفلكية ؟
إن قواعد الجسد الحي الاربعة الاساسية : الكبد والطحال والمرارة والرئة , والتي تحتوي على أخلاط الدم الاربعة , كالأوتاد الاربعة في الهيئة السماوية : وتد الشرق , ووتد الغرب , ووتد الجنوب , ووتد الشمال . فدراسة تلك الاوتاد وفهمها توصلنا الى معرفة الصحة والمرض في الكائنات الحية , ويزيد الفلكي شيئا على الطب الارضي وهو معرفة الوقت - كما تقدم في مقالة الطب والفلك والفلسفة - الذي يصح فيه المريض تماما , فاشترك الطبيب والفلكي بمعرفة الصحة والمرض , وزاد الفلكي على الطبيب بمعرفة وقت العلاج , لان ذلك مهم كي لا يعود المرض وهو المعبر عنه بالرصد , وهذا ما يجهله اليوم معظم الأطباء ان لم يكن جميعهم .
ومعروف ان القمر يعبر عن الفلك وأحواله وكأنه وزير الاعلام والناطق الرسمي باسمه , وبما ان العقدتين الشمالية والجنوبية مرتبطتان به تابعتان له , وبناء على ما تقدم , فكل سوء وخلل وشر وخطل في الهيئة قد تعبر عنه تلك العقدتان لمشاكلتهما لسوء المزاج وصحته في الجسم الحي .